قال ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر:
فصل: تعليل النفس
مر بي حمالان جذع ثقيل، وهما يتجاوبان بإنشاد النغم، وكلمات الاستراحة.
فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله، والآخر همته مثل ذلك.
فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما، وثقل الأمر، وكلما فعلا هذا هان الأمر.
فتأملت السبب في ذلك، فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر، وطربه به، وإحالة فكره في الجواب بمثل ذلك، فينقطع الطريق، وينسى ثقل المحمول.
فأخذت من هذا إشارة عجيبة، ورأيت الإنسان قد حمل من التكليف أموراً صعبة، ومن أثقل ما حمل مداراة نفسه، وتكليفها الصبر عما تحب، وعلى ما تكره.
فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس، كما قال الشاعر:
فإن تشكت فعلّلها المجرة من ... ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى
ومن هذا ما يحكى عن بشر الحافي رحمة الله عليه: سار ومعه رجل في طريق فعطش صاحبه، فقال له: نشرب من هذه البئر ؟ فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى، فلما وصلا إليها قال له: البئر الأخرى.
فما زال يعلله... ثم التفت إليه فقال له: هكذا تنقطع الدنيا.
ومن فهم هذا الأصل علل النفس وتلطف بها ووعدها الجميل لتصبر على ما قد حملت كما كان بعض السلف يقول لنفسه: والله ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك.
وقال أبو يزيد رحمة الله عليه: ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك.
واعلم أن مداراة النفس والتلطف بها لازم، وبذلك ينقطع الطريق؛ فهذا رمز إلى الإشارة، وشرحه يطول.